البحث عن اليمن

يناير ١٩، ٢٠١٧م  

 

في محاولة للابتعاد عن الأحداث المحبطة في العالم العربي والولايات المتحدة، قررت السفر إلى منطقة غير عربية ولا تكترث كثيرا بأوضاع الشرق الاوسط وكانت الوجهة أمريكا اللاتينية لخوض تجربة جديدة تفاجأت في أنها تتشابه كثيرا مع الشرق الأوسط وبالذات مع الدول العربية، ومع التجربة ذاتها التي مررت بها كطفلة، الفارق أن الأرض واللغة غير عربية.

منذ أحداث الربيع العربي، في ٢٠١١، حملنا بشائر أمل وتطلعات أجيال، إلا أن الكثير منا الآن يتوق إلى حالة من الهدوء والاستقرار والسلام. ومن المفارقة أن المحاولة ذاتها للإفلات من بلادي اليمن ألقت بي إلى قلب اليمن ولكن في دولة تحمل اسم اخر وهو نيكاراجوا، فتصبح العاصمة ماناجوا ـ  صنعاء وخليج سان خوان دي السور ـ خليج عدن ومدينة ليون تكاد تكون مدينة تعز المحاصرة التي انجبت غالبي المفكرين والسياسيين والاقتصاديين اليمنيين. وبقايا حكم الساندينيستا يدق أجراس للتذكير بدورات العنف الداخلية في اليمن، أما شعبها فليس غريبا عن حلقات سفك الدماء والعنف والعنف المضاد. كبلادي لم تسلم نيكاراجوا من التدخلات الاقليمية المجاورة والدولية البعيدة. وهذا ما جعلها مرآة عاكسة لليمن، على الأقل في عيوني التي ترى اليمن أينما نظرت.

ولا يمكن المرور ببساطة من دون التطابق الذي يكاد ان يكون مكتملا بين دانييل أورتيغا الذي حكم البلاد منذ الثمانينات إلى الآن والرئيس السابق علي عبدالله صالح فحتى تطلع أورتيجا للرئيس الفنزويلي الراحل هوجو تشافيز يماثل إعجاب وتطلع صالح لصدام حسين حيث تتشابه فنزويلا والعراق في امتلاكها لثروات النفط وسياسة قمع حرية المعارضين.

الفارق اللافت في تجربتي في نيكاراجوا، انني عشت نمط حياة الرجل اليمني في اليمن ـ أما النساء اليمنيات فلا يوجد أي تماثل ولو بسيط.

أكثر ما لامس شغف قلبي ودفعني لكتابة هذا المقال هي بلدة ماتاجلبا، أكبر منطقة لزراعة وتصدير البن في التفاتة لأكثر المواقع هزا للوجدان إذ ترد على ذاكرتي جبال حراز ويافع وبني مطر وتلال مدينة إب، وكيف تحولت كل هذه الأخيرة إلى مساحات لنبتة شيطانية هي القات, ورأيت مدينة المخا (موكا) التي أهدت العالم كله نكهة البن اليمني منذ القرن السادس عشر الميلادي, وهي تغرق الآن بدماء اليمنيين بدلا من أكواب القهوة.

القناعة كنز لايفنى:

في اليوم السابع، قادتني عجلات السيارة لأكثر من ست ساعات إلى قرية الرانشو جراندي (حرفيا المزرعة الكبرى) بحثا في خيالي صورة لليمن كمصدر قهوة بلا قات. استضافني المزارع إرنيستو في منزله الريفي المرشوش على ترابه الماء بسقفه المغطى بالزنككأنني هبطت

للتو في قرية عشوائية من قرى اليمن المتناثرة. هنالك يعيش إرنستو مع زوجته رينا (ملكة) وابنتيه داريان وجيني وحفيده ويلبرج. في فناء منزله تعيش بعضا من أبقاره ودجاجاته وخنازيره وفي الجانب الآخر من الفناء الخلفي يتم تنظيف وتجفيف حبوب البن و الكاكاو.

قبل أن يعرفني إرنيستو على مزرعته، أصر بإلحاح كرم عربي على تناول الغداء في داره بعد الجولة. وعندما علم اني لا اتناول الا لحم الدجاج قام بذبح دجاجة من عشته  كأي فلاح يمني تماما وخلال جولتي في المزرعة، باشرت الملكة رينا طهو وجبة الغداء على موقد حطب تكاد رائحته تصل انفي من بعيد، ودخانه يطير بي إلى صباحات إب، في وجبة حساء دجاج لم أذق مثلها في حياتي.

ما ظننت أنه هروب من اليمن ورطني في نسخة جوالة منها، و ما بدأ كرحلة لإسترجاع المستقبل تحولت إلى درس جزيل في مفهوم القناعة والعيش بسلام واتساق.

كانت القهوة أساسا في بحثي عن شيء، يشبه رائحة اليمن وخلصت إلى مزيج من الكاكاو ونشوة الحامض ممزوجا بحلاوة سكر الليمون والبرتقال وعطر من ندى الطل يغطي مساحات الروح وشيء من الحزن والفقد يتسلل إلى القلب بقلق مشروع عن أشجار اليمن وقبلها أهل اليمن.

بقايا الوحل والأرض الرطبة وغوص القدم في مرتفعات ومنحدرات جبلية وتلال ـ كلها قد تجلب بعض التذمر لكنني كنت ابتسم واطرب عندما تحلق فراشة او اسمع نق ضفدع صغير ا, أو هديل بلبل بديع, فأنسي الطين والبلل وتلسعني سعادة لا أكاد أتذكرها، لكنها تنبع من طفولة ما، من قرية ما، من بلد اسمه اليمن. خلال الجولة، كان إرنستو يحمل منجلا بيده يزيح به ما تشابك من أشجار ويقطف ثماره بفخر لأتذوقها ويطلب مني أن أرمي ما تبقى منها في الأرض حتى تنمو من جديد.

قال أرنستو بفخر، "لا تلوث المبيدات أي شيء هنا، كل المحاصيل والطبيعة نقية وعضوية"، فسألت "كيف تواجه الحشرات الضارة بالنباتات؟" فكان رده، "كل المخلوقات تجد ما يكفيها للعيش بسلام واكتفاء".

برغم بساطة وتواضع منزل إرنيستو إلا أن مزرعته شاسعة الأطراف ويعمل لديه مزارعون كثر يقيمون مع أسرهم في أراضيه وكما بدا في حديثي مع إرنيستو، فإن حلمه الأكبر هو أن يتمكن من نقل بيته من اسفل التلة إلى أعلاها ليطل على سفحها. ولم تكن هذه الجولة ترفيهية فحسب، بل تعليمية وتوعوية حيث تعلمت كيف يزرع وينمو ويجمع وينقى ويعد البن قبل وصوله إلى المستهلك.

عند العودة، سألني إرنيستو إن كنت مهتمة بمقابلة بعض أصدقائه والتعرف منهم على كفاحهم وشقاهم كمزارعين، فأجبت بالترحيب، و تم اللقاء بعد تناول الطعام.

قوة الجماعة والعمل القاعدي:

قضيت معظم الغداء وأنا أتأمل جنة أرنستو، الرجل السعيد الذي عرف معنى الاكتفاء والقناعة. بعدها التقيت بالدون (السيد) كارلوس، رئيس الحركة القاعدية لحماية نهر ياوسكا المعروفة ب"حماة ياوسكا"، والآنسة سماريا السكرتير الأول للحركة. وبدأت سماريا تروي قصة كفاح الحملة في مواجهة جشع الحكومة وشركة B2Gold الكندية لاستكشاف المعادن الثمينة في بلدية الرانشو جراندي.  علما بان الشركة ذاتها لها منجمان في دولة نيكاراجوا، إلليمون واليبرتاد، لاستخراج الذهب وقد حصلت الشركة في عام ٢٠٠٢ بعقد للتنازل من الحكومة لمدة ربع قرن وفي عام ٢٠١١ بدأت الشركة في استكشاف منطقة المزرعة الكبرى الرانشو غراندي.

قدرت الشركة أرباحها المتوقعة من هذا المشروع ب٢٢ بليون دولار كندي، الأمر الذي شجع الحكومة بالقول بأن المشروع سيحقق فوائد تنموية جمة للمنطقة وسيساعد على رفع مستوى معيشة السكان فوفقا لإحصاءات  ٦٨٪ من سكان الرانشو جراندي يعيشون في فقر مدقع. فاطلقت حكومة أورتيجا حملة بدأت في المدارس العامة بفوائد التعدين و بدا التلقين السياسي لشرح فائدة العائدات للمنطقة. وبالصدفة كان القس الكاثوليكي للمنطقة ( بابلو) واعيا بالعواقب البيئية لمشروع استخراج الذهب التي من بينها تلوث مياه الشرب والري التي تنبع من نهر الياسكوكا. فبدأ القس بتوعية مناصري الكنيسة بالاحتجاج السلمي ووحد جهوده مع الكنيسة الأنجيلية الوافدة، الأمر الذي نجم عن تلاحم واصطفاف غير مسبوق حول الموضوع.

نظم المواطنون أنفسهم واتخذوا قرارا بعدم إرسال أطفالهم إلى المدارس العامة احتجاجا على استمرار الحكومة والشركة ومناصريهما في نشر الدعاية لصالح المشروع فقد قامت الحكومة ببعض الإجراءات لمنع وصول آراء المواطنين المحليين إلى الفضاء العام والقيام بحملة دعائية مضادة حتى يمهدوا الأرضية لإفشال جهود المحتجين السلميين ومن بين هذه الإجراءات قامت الحكومة بمنع محطات الوقود من تزويد أي وسائل نقل تعتزم المشاركة في الاحتجاجات بالوقود حتى تقلل من أثر نجاح هذه الحملة.

ونجم عن هذه الحملة عدم التحاق الطلاب بالمدارس لمدة ٣ أشهر كاملة، وحاول وزيرا التعليم والبيئة بمرافقة مندوب الشركة المستثمرة الالتقاء بقيادة حركة المعترضين وعلى رأسهم كارلوس لمحاولة إغرائهم ببعض مزايا ومنافع مادية وبعض المصالح دون جدوى.

استفسرت عن سبب رفضهم للعروض المقدمة سواء هم أو غيرهم من السكان وكانت الإجابة البسيطة والعميقة انه من الاستحالة أن تقدر أرضهم وبيئتهم بأي ثمن مهما عظم.

كان يوم ٣ أكتوبر ٢٠١٥م اليوم الفاصل حيث استعد كل طرف بكل ما لديهم من أدوات لحسم المسألة. فرتبت الحكومة مظاهرة كبرى لدعم الشركة المستثمرة واتت بالمتظاهرين من قرى أخرى بدون أن تطلعهم على خلفية وحقائق الموضوع. الأمر الذي أدى إلى تشتت المشاركين في مظاهرة الحكومة وفرار كثير منهم خجلا عندما عرفوا الحقيقة. في ذات اليوم، أقام ممثلو حماة ياسوكا مظاهرة ضخمة شارك فيها ١٥،٠٠٠ فرد من ٢٥ قرية بالرغم إجراءات منع التزويد بالوقود، الأمر الذي أجبر كثيرا منهم المشي سيرا على الأقدام لمدة طويلة.

ما أن يصل المتحدثون إلى هذه النقطة من الحديث إلا وترى في وجوههم وهج من السعادة والحماس كأن الأحداث وليدة اللحظة.

في الحادي عشر من أكتوبر تلقى أرنستو رسالة نصية من أخيه المقيم في قرية أخرى تبشر بتراجع الحكومة عن مشروع استخراج الذهب من الرانشو غراندي واصفا إياه ب"اللاحيوي".

إن نجاح المظاهرة الإستثنائي لا يعني انتهاء الموضوع، فلا يزال أصحاب الشأن في تواصل مستمر وعلى أهبة الاستعداد لمواجهة أي جديد. الجدير بالذكر إن هذه الحركة هي الوحيدة الناجحة من الحركات السياسية السلمية منذ العشرينيات في دولة نيكاراجوا، والتي لم تنزف فيها قطرة دم واحدة. وهنا أعود إلى بلدي الجريح اليمن الذي تنزف فيه دماء شعبه من الحدود للحدود دون أفق وبلا هدف يذكر.

في هذه الزيارة تعلمت دروسا كثيرة من خلال بساطة ووضوح ودفء وكرم إرنيستو وأسرته وحماس رفاقه وأكثر ما أسرني هي الثقة البسيطة بدون غرور لقدرة العمل الجمعي والارتقاء عن الأنانية الفردية  إلى تحقيق الأحلام الكبيرة بسلمية وصدقية و إيمان وقناعة بأن مصلحة المجموع هي الأساس للسعادة الفردية.

إذا كانت طبيعة الأرض أو القهوة وأشجار البن قد أعادتني إلى اليمن - أصبحت قريبة وبعيدة في آن واحد عند التعامل مع البشر وطبائعهم المختلفة، وأساليب تفكيرهم، وأعمالهم لتحقيق أهدافهم الواضحة. وهكذا هربت من اليمن إليها، كقدر كل يمني لم تتسع بلاده لأحلامه وتطلعاته ولم تمنحه فرصة للإبتعاد عنها إلا على صعيد الجغرافيا لا أكثر.